Sunday, October 25, 2015

موسيقى الحروف ... قصة عن بغداد

في أجواء الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 أراد رسام وكاتب الأطفال الأمريكي جيمس رمفورد
James Rumford، المعارض للحرب، أن يروى قصة مختلفة عن العراق. أراد أن يبعث رسالة أمل وسلام إلى العراق وأناسها وتاريخها وثقافتها المنسية في غيوم الحرب. فكان ميلاد قصته التي اختار لها عنوان Silent Music … A Story of Baghdad والتي كان لي حظ نقلها إلى العربية في كتاب صدر مؤخرا عن دار البستاني في القاهرة تحت عنوان (موسيقى الحروف...قصة عن بغداد). بالرغم من أن جيمس رمفورد أحد رسامي ومؤلفي كتب الأطفال المعروفين بالولايات المتحدة إلا أن كتابه لم ينشر إلا بعد مرور خمس سنوات على كتابته أي في العام 2008 ، حيث لم يرغب معظم الناشرين في تحدي المناخ السياسي الداعم للحرب آنذاك، ليحصل كتابه بعد ذلك على جائزة هيئة السلام للكُتاب وجائزة جين آدامز للسلام لأفضل كتاب للأطفال عام 2009.  
تحكي القصة عن صبي يدعى عليّ يعيش في مدينة بغداد التي تمر بأوقات عصيبة. يحب عليّ لعب كرة القدم والموسيقى، ولكن عشقه الحقيقي يكمن في الخط العربي لذلك يقضي معظم وقته في الرسم بالحروف العربية الجميلة الطيعة. شأنه في ذلك شأن ياقوت المستعصمي فنان الخط العربي المبدع الذي عاش في بغداد منذ أكثر من 800 عام مضت، وشاءت الأقدار أن يكون معاصرا لحرب المغول الشرسة على العراق.
يحكي لنا عليّ عن أسرته وحياته من خلال رحلته مع الرسم بالحروف العربية. فيشرح لنا إحساسه بتدفق الحبر من قلمه وهو يرسم الحروف على الورق حيث يقف بقلمه حينا وينزلق به حينا أخر وكأنه يرقص على أنغام موسيقى صامتة - فالحروف العربية متصلة ما يساعد على انسياب الكلمات عبر الصفحة لتشكل إيقاعا سحريا فتكون الصفحة المكتوبة باللغة العربية أشبه بالنوتة الموسيقية ومن هنا جاء اسم الكتاب Silent Musicفي لغته الإنجليزية ولكن لدواعي خصوصية وجماليات كل لغة اخترنا (موسيقى الحروف) عنوانا للنسخة العربية - يصور لنا عليّ كيف أن كتابة جملة طويلة تشبه مشاهدة لاعب كرة قدم بالحركة البطيئة وهو يركل الكرة عبر الملعب تاركا وراءه أثرا من النقاط والحلقات. يشرح لنا كيف أن رسم حروف اسم أخته ياسمين أسهل من رسم حروف اسم جده مصطفي. ويذكر عليّ أن والدته تداعبه دوما وتناديه بياقوت على اسم فنان الخط العربي المعروف الذي يتخذه مثلا أعلى له لأنه كان قادرا على الإبداع وخلق ما هو جميل في أصعب اللحظات. حيث يُروى عن ياقوت المستعصمي أنه عندما غزا المغول بغداد واحرقوا المدينة وقتلوا ألاف السكان الأبرياء صعد إلى مئذنة عالية هربا من كل ذلك القبح والجنون وبدأ يرسم بالحروف وينظم أعظم الأشعار.
وفي ليلة مرعبة في عام 2003 دوى صوت القنابل في سماء بغداد وعم الدمار والموت أرجاء المدينة مجددا. وبينما كانت القنابل والقذائف تسقط فوق المدنية كتب عليّ مثل ياقوت، كتب طوال تلك الليلة وليالي القصف الكثيرة التي تلتها حتى ملأ غرفته بلوحات من الخط العربي وملأ رأسه بالسلام. لقد هرب إلى الحروف والكلمات والجمال.  وبعد أن توقفت ليالي القصف، الحرب تلت الحرب، ولكن علياً ظل مستمرا في الرسم بالحروف والحلم بالسلام.
أعاود قراءة قصة عليّ وحروفه بين الحين والحين مع ابنتي نور لنتذكر معا أن وسط الحروب والاقتتال يعيش أناس يحملون اسماءا وقصصا فهم ليسوا مجرد أرقام في نشرة أخبار. لنتذكر أن هناك تاريخا وحضارة وثقافة وجمالا حجبتها غيوم الحرب بقبحها، لكنها حاضرة لتراها العيون التي باستطاعتها أن ترى وتحلم بالرغم من سواد الغيوم.
 * استعرض رمفورد جماليات الخط العربي والتصميمات الهندسية الإسلامية بلوحات مبدعة جعلت من الكتاب تحفة فنية لابد من اقتنائها. جيمس رمفورد رحالة ولغوي ورسام وكاتب للأطفال وصانع للكتب. يعيش في هنولولو عاصمة ولاية هاواي الأمريكية. يعشق الفنون البصرية واللغات وفن الخطوط اليدوية ويرى أن الخط العربي من أجمل الخطوط في العالم. حصلت أعمال رمفورد على العديد من الجوائز العالمية.
موقع الرسام وكاتب الأطفال جيمس رمفورد 

Tuesday, October 20, 2015

ماذا تفعل بفكرة؟



ماذا تفعل بفكرة خاصة إذا كانت مختلفة أوجريئة أو ربما جامحة بعض الشيء؟ هل تمتلك جرأة تتبعها لترى أين ستفضي بك؟ هل تناضل من أجلها؟ لقد أمضى العالِم والفلكي الإيطالي جاليلليو ما تبقى من عمره قيد الإقامة الجبرية في بيته لتبنيه نظرية كوبرنيكوس التي تثبت أن الشمس هي مركز الكون وأن الأرض تدور حولها حيث عدتها الكنيسة الكاثوليكية آنذاك هرطقة. وعندما اطلع عالِم الأحياء البريطاني تشارلز داروين العالم على نظريته عن التطور بالانتخاب الطبيعي واجه انتقادات حادة من الناس والكنيسة بل ومن المجتمع العلمي نفسه. ودفع القس والناشط السياسي الأمريكي مارتن لوثر كينج حياته ثمنا لفكرة المساواة في الحقوق المدنية. بمرور الأزمنة لُقِب جاليلليو بأبي العلم الحديث، وأصبحت فكرة الانتخاب الطبيعي حجر الزاوية في علم الأحياء الحديث، وأصبح للولايات المتحدة رئيس أسود. تلك الأفكار وغيرها أثرت في تاريخ البشر ومجرى حياتهم وفهمهم للكون ومحيطهم الحيوي، ولكن لماذا يخاف الناس الأفكارَ المختلفة عن السائد؟ وهل كل الأفكار حملت بالضرورة تغييرا أفضل للعالم؟

 كل تلك الخواطر والحكايات السابقة جلبها نقاش مع ابنتي التي تحمل من العمر تسع سنوات لكتاب (ماذا تفعل بفكرة؟) أو (what do you do with an idea?) من تأليف الكاتب الأمريكي كوبي يمادا  Kobi Yamada ورسوم الرسامة الصينية ماي بيزم Mae Besom .  يحمل الكتاب رؤية عميقة عن دورة حياة الفكرة لكنها مقدمة بأسلوب بسيط ومرح ورسوم رقيقة. تمتد الفئة العمرية للكتاب لتشمل طفلا لا يجيد القراءة بعد ولكنه يتلمس طريقه إلى عالم الكتب والأفكار من خلال الاستماع إلى حكي القصة أو طفلا بعمر ابنتي بإمكانه قراءة كتب ذات فصول. وهذا شأن الكثير من كتب الأطفال المصورة التي اطلعت عليها في الولايات المتحدة وعبقريتها وجمالها في آن.

تبدأ القصة بطفل صغير يحكي لنا أنه في يوم من الأيام جاءته فكرة. يتساءل الطفل من أين جاءت؟ ولماذا جاءت؟ وماذا يفعل بها؟ طوال القصة لا نعرف كنه الفكرة. الكاتب يقدم للأطفال هنا الفكرة كمفهوم مجرد،  هي دورة حياة الفكرة وما تفعله بصاحبها، مشاعره نحوها، احباطاته وأحلامه عنها، عزيمته لتتبعها حتى تتشكل معالمها وتغير العالم من حوله.  في البداية لم يعر الطفل الفكرة اهتماما فقد بدت غريبة وهشة لذلك انصرف عنها ولكنها ظلت تتبعه. ثم ما لبث أن انتابه شعورا بالقلق! ترى ماذا سيقول الأخرون عن فكرته؟ لذلك أخفاها واحتفظ بها لنفسه، ولكنه لم يستطع أن ينكر أن هناك شيئا ساحرا عن فكرته، كان عليه أن يعترف بأنه يشعر أكثر بالسعادة عندما يكون بصحبتها. كانت تحتاج منه الكثير من الرعاية. كانت تريد غذاءا ولهوا حتى بدأت تكبر شيئا فشيئا فأصبح هو والفكرة صديقين. 

وبالرغم من خوفه من رأي الناس قرر أن يطلعهم عليها. لقد كان خائفا أن يتهكموا على فكرته أو أن يظنوا أنها ساذجة، وهذا ما فعله الكثيرون. لقد ظن البعض أن لا فائدة منها وظن البعض الآخر أنها غريبة جدا، بل حاولوا أن يثبطوا عزيمته بقولهم إنه يهدر وقته في ما لا يجدي نفعا. في البداية صدقهم وفكر في أن يحجم عنها، ولكنه أدرك أنها فكرته لا أحد يعرفها حق المعرفة كما يعرفها هو، فلتكن مختلفة وغريبة أو حتى جامحة لقد قرر أن يحميها ويمنحها اهتمامه. كبرت الفكرة أكثر وأكثر وأحبها وترك لها مساحة لتحلم ويحلم معها حتى كشفت له عن أسرارها، لقد علمته مثلا كيف يمشي على يديه لأنه من المفيد أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة! وفي أحد الأيام حدث شيء رائع، لقد أصبح لفكرته أجنحة وانطلقت أمام عينيه نحو السماء، لا يعرف كيف يصف ما حدث ولكنها أصبحت في كل مكان، لقد أصبحت جزءا من كل شيء، وعندها أدرك الصبي ماذا تفعل بفكرة... إنك تغيرالعالم بها.

أضافت الرسوم الكثير إلى النص وإلى النقاش مع ابنتي أيضا. بدءا من اختيار الرسامة لتجسيد الفكرة في شكل بيضة ذهبية اللون على رأسها تاج وتمشي على قدمين. لم أحب كثيرا تجسيد الفكرة على شكل بيضة وفكرت في أن تجسيدها على شكل برعم ربما كان أجمل، ولكن ابنتي أحبت شكل البيضة ورأت أنها خفيفة الظل كما لاحظت أن في الرسوم الأخيرة تظهر بعض الشقوق على جدار البيضة بما ينذر القاريء بقرب كسر جدارها وانطلاقها. امتازت الرسوم بالدقة والبساطة. كما اختارت الرسامة أيضا أن يكون الطفل والعالم من حوله رماديا حيث تظهر الألوان في القصة تدريجيا حول البيضة الذهبية في الأساس لتغمر الألوان الطفل وعالمه بعد انطلاق الفكرة في كل مكان. 


المزيد عن كوبي يمادا وأعماله التي يغلب عليها طابع الشغف بالحياة على هذا الرابط http://www.biblio.com/kobi-yamada/author/66461
موقع الرسامة ماي بيزم