Sunday, October 25, 2015

موسيقى الحروف ... قصة عن بغداد

في أجواء الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 أراد رسام وكاتب الأطفال الأمريكي جيمس رمفورد
James Rumford، المعارض للحرب، أن يروى قصة مختلفة عن العراق. أراد أن يبعث رسالة أمل وسلام إلى العراق وأناسها وتاريخها وثقافتها المنسية في غيوم الحرب. فكان ميلاد قصته التي اختار لها عنوان Silent Music … A Story of Baghdad والتي كان لي حظ نقلها إلى العربية في كتاب صدر مؤخرا عن دار البستاني في القاهرة تحت عنوان (موسيقى الحروف...قصة عن بغداد). بالرغم من أن جيمس رمفورد أحد رسامي ومؤلفي كتب الأطفال المعروفين بالولايات المتحدة إلا أن كتابه لم ينشر إلا بعد مرور خمس سنوات على كتابته أي في العام 2008 ، حيث لم يرغب معظم الناشرين في تحدي المناخ السياسي الداعم للحرب آنذاك، ليحصل كتابه بعد ذلك على جائزة هيئة السلام للكُتاب وجائزة جين آدامز للسلام لأفضل كتاب للأطفال عام 2009.  
تحكي القصة عن صبي يدعى عليّ يعيش في مدينة بغداد التي تمر بأوقات عصيبة. يحب عليّ لعب كرة القدم والموسيقى، ولكن عشقه الحقيقي يكمن في الخط العربي لذلك يقضي معظم وقته في الرسم بالحروف العربية الجميلة الطيعة. شأنه في ذلك شأن ياقوت المستعصمي فنان الخط العربي المبدع الذي عاش في بغداد منذ أكثر من 800 عام مضت، وشاءت الأقدار أن يكون معاصرا لحرب المغول الشرسة على العراق.
يحكي لنا عليّ عن أسرته وحياته من خلال رحلته مع الرسم بالحروف العربية. فيشرح لنا إحساسه بتدفق الحبر من قلمه وهو يرسم الحروف على الورق حيث يقف بقلمه حينا وينزلق به حينا أخر وكأنه يرقص على أنغام موسيقى صامتة - فالحروف العربية متصلة ما يساعد على انسياب الكلمات عبر الصفحة لتشكل إيقاعا سحريا فتكون الصفحة المكتوبة باللغة العربية أشبه بالنوتة الموسيقية ومن هنا جاء اسم الكتاب Silent Musicفي لغته الإنجليزية ولكن لدواعي خصوصية وجماليات كل لغة اخترنا (موسيقى الحروف) عنوانا للنسخة العربية - يصور لنا عليّ كيف أن كتابة جملة طويلة تشبه مشاهدة لاعب كرة قدم بالحركة البطيئة وهو يركل الكرة عبر الملعب تاركا وراءه أثرا من النقاط والحلقات. يشرح لنا كيف أن رسم حروف اسم أخته ياسمين أسهل من رسم حروف اسم جده مصطفي. ويذكر عليّ أن والدته تداعبه دوما وتناديه بياقوت على اسم فنان الخط العربي المعروف الذي يتخذه مثلا أعلى له لأنه كان قادرا على الإبداع وخلق ما هو جميل في أصعب اللحظات. حيث يُروى عن ياقوت المستعصمي أنه عندما غزا المغول بغداد واحرقوا المدينة وقتلوا ألاف السكان الأبرياء صعد إلى مئذنة عالية هربا من كل ذلك القبح والجنون وبدأ يرسم بالحروف وينظم أعظم الأشعار.
وفي ليلة مرعبة في عام 2003 دوى صوت القنابل في سماء بغداد وعم الدمار والموت أرجاء المدينة مجددا. وبينما كانت القنابل والقذائف تسقط فوق المدنية كتب عليّ مثل ياقوت، كتب طوال تلك الليلة وليالي القصف الكثيرة التي تلتها حتى ملأ غرفته بلوحات من الخط العربي وملأ رأسه بالسلام. لقد هرب إلى الحروف والكلمات والجمال.  وبعد أن توقفت ليالي القصف، الحرب تلت الحرب، ولكن علياً ظل مستمرا في الرسم بالحروف والحلم بالسلام.
أعاود قراءة قصة عليّ وحروفه بين الحين والحين مع ابنتي نور لنتذكر معا أن وسط الحروب والاقتتال يعيش أناس يحملون اسماءا وقصصا فهم ليسوا مجرد أرقام في نشرة أخبار. لنتذكر أن هناك تاريخا وحضارة وثقافة وجمالا حجبتها غيوم الحرب بقبحها، لكنها حاضرة لتراها العيون التي باستطاعتها أن ترى وتحلم بالرغم من سواد الغيوم.
 * استعرض رمفورد جماليات الخط العربي والتصميمات الهندسية الإسلامية بلوحات مبدعة جعلت من الكتاب تحفة فنية لابد من اقتنائها. جيمس رمفورد رحالة ولغوي ورسام وكاتب للأطفال وصانع للكتب. يعيش في هنولولو عاصمة ولاية هاواي الأمريكية. يعشق الفنون البصرية واللغات وفن الخطوط اليدوية ويرى أن الخط العربي من أجمل الخطوط في العالم. حصلت أعمال رمفورد على العديد من الجوائز العالمية.
موقع الرسام وكاتب الأطفال جيمس رمفورد 

Tuesday, October 20, 2015

ماذا تفعل بفكرة؟



ماذا تفعل بفكرة خاصة إذا كانت مختلفة أوجريئة أو ربما جامحة بعض الشيء؟ هل تمتلك جرأة تتبعها لترى أين ستفضي بك؟ هل تناضل من أجلها؟ لقد أمضى العالِم والفلكي الإيطالي جاليلليو ما تبقى من عمره قيد الإقامة الجبرية في بيته لتبنيه نظرية كوبرنيكوس التي تثبت أن الشمس هي مركز الكون وأن الأرض تدور حولها حيث عدتها الكنيسة الكاثوليكية آنذاك هرطقة. وعندما اطلع عالِم الأحياء البريطاني تشارلز داروين العالم على نظريته عن التطور بالانتخاب الطبيعي واجه انتقادات حادة من الناس والكنيسة بل ومن المجتمع العلمي نفسه. ودفع القس والناشط السياسي الأمريكي مارتن لوثر كينج حياته ثمنا لفكرة المساواة في الحقوق المدنية. بمرور الأزمنة لُقِب جاليلليو بأبي العلم الحديث، وأصبحت فكرة الانتخاب الطبيعي حجر الزاوية في علم الأحياء الحديث، وأصبح للولايات المتحدة رئيس أسود. تلك الأفكار وغيرها أثرت في تاريخ البشر ومجرى حياتهم وفهمهم للكون ومحيطهم الحيوي، ولكن لماذا يخاف الناس الأفكارَ المختلفة عن السائد؟ وهل كل الأفكار حملت بالضرورة تغييرا أفضل للعالم؟

 كل تلك الخواطر والحكايات السابقة جلبها نقاش مع ابنتي التي تحمل من العمر تسع سنوات لكتاب (ماذا تفعل بفكرة؟) أو (what do you do with an idea?) من تأليف الكاتب الأمريكي كوبي يمادا  Kobi Yamada ورسوم الرسامة الصينية ماي بيزم Mae Besom .  يحمل الكتاب رؤية عميقة عن دورة حياة الفكرة لكنها مقدمة بأسلوب بسيط ومرح ورسوم رقيقة. تمتد الفئة العمرية للكتاب لتشمل طفلا لا يجيد القراءة بعد ولكنه يتلمس طريقه إلى عالم الكتب والأفكار من خلال الاستماع إلى حكي القصة أو طفلا بعمر ابنتي بإمكانه قراءة كتب ذات فصول. وهذا شأن الكثير من كتب الأطفال المصورة التي اطلعت عليها في الولايات المتحدة وعبقريتها وجمالها في آن.

تبدأ القصة بطفل صغير يحكي لنا أنه في يوم من الأيام جاءته فكرة. يتساءل الطفل من أين جاءت؟ ولماذا جاءت؟ وماذا يفعل بها؟ طوال القصة لا نعرف كنه الفكرة. الكاتب يقدم للأطفال هنا الفكرة كمفهوم مجرد،  هي دورة حياة الفكرة وما تفعله بصاحبها، مشاعره نحوها، احباطاته وأحلامه عنها، عزيمته لتتبعها حتى تتشكل معالمها وتغير العالم من حوله.  في البداية لم يعر الطفل الفكرة اهتماما فقد بدت غريبة وهشة لذلك انصرف عنها ولكنها ظلت تتبعه. ثم ما لبث أن انتابه شعورا بالقلق! ترى ماذا سيقول الأخرون عن فكرته؟ لذلك أخفاها واحتفظ بها لنفسه، ولكنه لم يستطع أن ينكر أن هناك شيئا ساحرا عن فكرته، كان عليه أن يعترف بأنه يشعر أكثر بالسعادة عندما يكون بصحبتها. كانت تحتاج منه الكثير من الرعاية. كانت تريد غذاءا ولهوا حتى بدأت تكبر شيئا فشيئا فأصبح هو والفكرة صديقين. 

وبالرغم من خوفه من رأي الناس قرر أن يطلعهم عليها. لقد كان خائفا أن يتهكموا على فكرته أو أن يظنوا أنها ساذجة، وهذا ما فعله الكثيرون. لقد ظن البعض أن لا فائدة منها وظن البعض الآخر أنها غريبة جدا، بل حاولوا أن يثبطوا عزيمته بقولهم إنه يهدر وقته في ما لا يجدي نفعا. في البداية صدقهم وفكر في أن يحجم عنها، ولكنه أدرك أنها فكرته لا أحد يعرفها حق المعرفة كما يعرفها هو، فلتكن مختلفة وغريبة أو حتى جامحة لقد قرر أن يحميها ويمنحها اهتمامه. كبرت الفكرة أكثر وأكثر وأحبها وترك لها مساحة لتحلم ويحلم معها حتى كشفت له عن أسرارها، لقد علمته مثلا كيف يمشي على يديه لأنه من المفيد أن نرى الأشياء من زاوية مختلفة! وفي أحد الأيام حدث شيء رائع، لقد أصبح لفكرته أجنحة وانطلقت أمام عينيه نحو السماء، لا يعرف كيف يصف ما حدث ولكنها أصبحت في كل مكان، لقد أصبحت جزءا من كل شيء، وعندها أدرك الصبي ماذا تفعل بفكرة... إنك تغيرالعالم بها.

أضافت الرسوم الكثير إلى النص وإلى النقاش مع ابنتي أيضا. بدءا من اختيار الرسامة لتجسيد الفكرة في شكل بيضة ذهبية اللون على رأسها تاج وتمشي على قدمين. لم أحب كثيرا تجسيد الفكرة على شكل بيضة وفكرت في أن تجسيدها على شكل برعم ربما كان أجمل، ولكن ابنتي أحبت شكل البيضة ورأت أنها خفيفة الظل كما لاحظت أن في الرسوم الأخيرة تظهر بعض الشقوق على جدار البيضة بما ينذر القاريء بقرب كسر جدارها وانطلاقها. امتازت الرسوم بالدقة والبساطة. كما اختارت الرسامة أيضا أن يكون الطفل والعالم من حوله رماديا حيث تظهر الألوان في القصة تدريجيا حول البيضة الذهبية في الأساس لتغمر الألوان الطفل وعالمه بعد انطلاق الفكرة في كل مكان. 


المزيد عن كوبي يمادا وأعماله التي يغلب عليها طابع الشغف بالحياة على هذا الرابط http://www.biblio.com/kobi-yamada/author/66461
موقع الرسامة ماي بيزم

Monday, May 4, 2015

يا له من عالم رائع


قد يبدو هذا العنوان تهكميا أو مجافيا للواقع وغير متسق مع ما يحيط بنا من حروب طاحنة، وصراعات مُهلكة، ومجاعات، وأوبئة، وتلوث إلى آخر القائمة العبثية. عن أي عالم رائع تتحدث! هذا بالضبط ما قاله بعض الشباب في أواخر الستينيات منتقدين مغني الجاز الأمريكي الأشهرلويس أرمسترونج Louis Armstrong لغنائه (يا له من عالم رائع) من تأليف بوب ثيل Bob Thiele وألحان David Weissدايفد وايس عام 1968. ولكن "أرمسترونج" أجابهم بأبوية خالصة قائلا: فلتستمعوا إلى المغني العجوز دقيقة، لا يبدو العالم لي سئيا لهذه الغاية، ولكن ما نفعله نحن به يجعله كذلك.

عندما انتبهت ابنتي إلى كتاب (يا له من عالم رائع) أو What a wonderful world أثناء تجوالنا في مكتبة لبيع الكتب، خطر لي نفس الخاطر الذي جال برأس شباب الستينيات من القرن الماضي " عن أي عالم رائع تتحدث"، ولكني لاحظت اهتمام ابنتي بالكتاب والابتسامة التي أنارت وجهها وهي تقلب صفحات الكتاب الذي اتخذ من كلمات الأغنية موضوعا. فأخذت أقلب معها صفحات الكتاب ووجدتني أدندن لحن الأغنية، الذي لم اسمعه منذ فترة طويلة، فتذكرت كم هي مرحة الإيقاع. لقد أعاد الرسام تيم هوبجوود Tim  Hopgood إلى الأذهان تلك الأغنية المبهجة برسومه المشرقة الألوان وخطوطه المرحة. حيث نتتبع من خلالها صبيا يدهشه العالم من حوله بأشجاره الخضراء وزهوره الحمراء التي يعتقد أنها تتفتح من أجله، فيقول لنفسه ياله من عالم رائع. تدهشه زرقة السماء وبياض السحب، ويدهشه بريق النهار وجلال الليل، وتبهره ألوان قوس قزح التي يرى جمالها منعكسا في وجوه المارة. يرى الصبي المحبة في مصافحة الأصدقاء. وبكاء الرضائع يجعله يفكر في اليوم الذي سيكبرون فيه ويتعلمون أكثر مما سيعرف. 



لقد استطاع الرسام بألوانه التي غلب عليها اللون الأصفر والأخضر والأزرق بدرجاتها المختلفة أن ينقل لنا الأمل الذي تحمله كلمات الأغنية إلى أرواحنا. يقول "هوبجوود" إنه عندما اهدته ابنته نسخة قديمة من الأغنية، والتي وجدتها في سوق للسلع المستخدمة، شعر فور سماعها أنه يريد أن يرسمها. لقد استمع إليها أول مرة وهو يحمل من العمر ست سنوات وكان لها تأثير مبهج. فأراد أن يذكر الناس بها وينثر بهجتها في نفوس الأطفال. حسنا ما فعل، لقد كدت للحظة أن انساق وراء مشاعر الغضب من العالم الذي لا يبدو لي رائعا على الإطلاق، ولكن ابنتي ببرائتها انتبهت إلى الكتاب لأنه يحمل أملا. قرأت الكتاب مع ابنتي لأنني أريدها أن تقبض على ذلك الأمل، أريدها أن ترغب في استكشاف العالم لا أن ترهبه، أريدها أن تعتقد في العلاقات الطيبة بين البشر، وأن تؤمن بالمحبة والرحمة. قد يبدو ذلك للبعض وهما أو أملا زائفا، ولكن كما قال "أرمسترونج" ردا على منتقديه " كيف يمكن العالم أن يكون لو أعطيناه فرصة". 

فسحة أمل هذا ما يتطلبه الأمر، أراها في فتاة في مخيم لاجئين تذهب إلى المدرسة في ظروف قد لا يمكنني استيعابها لكنها تصر على التعلم، في رب أسرة، في ذات المخيم، يزرع حديقة صغيرة أمام خيمته ليلعب فيها أطفاله ولتذكرهم بوطنهم كيف كان وراف الظلال وجميلا، وأن حتما من عودة. فسحة أمل هذا ما يتطلبه الأمر، وهذا ما يمنحه كتاب (ياله من عالم رائع) للأطفال وللكبار أيضا.






موقع الرسام الأمريكي Tim Hopgood http://www.timhopgood.com/

Friday, April 17, 2015

الكتب الطائرة المذهلة لمستر موريس ليسمور


 يأسرك "موريس ليسمور" بأناقته الكلاسيكية وعينيه الواسعتين الشغوفتين ودفتره الذي يحمله معه أينما ذهب يُدون فيه قصته بأفراحها وأتراحها. فكل منا قصة تستحق أن تروى وحكاياتنا التي نتداولها ونتوارثها هي التي تمنح حياتنا معنى ودفئا ولونا، هكذا يَعتقد "موريس ليسمور" الشخصية التي ابتدعها كاتب الاطفال والمخرج الأمريكي "وليام جويس"  William Joyce  واكتملت ملامحه وقصته عام 2011 عندما قدمه لأول مرة في شكل تطبيق للأيباد يحمل اسم (الكتب الطائرة المذهلة لمستر موريس ليسمور) رسوم "جو بلوم" Joe Bluhm، ثم في فيلم متحرك قصير حصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم متحرك لعام 2012 وأخيرا في شكل كتاب مطبوع للأطفال.

تحكي القصة عن "موريس" الذي يعشق الكتب والحكايات ويقضي معظم وقته يقرأ أو يكتب خواطره في دفتره، إلى أن اجتاح إعصار قوي مدينته فقلب حياته وحياة الناس من حوله رأسا على عقب. فيهيم "موريس" على وجهه حاملا دفتره بعدما تناثرت حروف الكلمات التي يضمها في الهواء وبعدما فقدت الحياة من حوله ألوانها  - تفقد الرسوم في القصة ألوانها ليسود اللونان الأبيض والأسود- حتى بدت له في الأفق امرأة تحلق في إنسياب بواسطة سرب بهيج من الكتب الطائرة. ينبهر "موريس" بسرب الكتب الطائرة فيقذف دفتره في الهواء ليرى إذا كان بإمكانه أن يطير كتلك الكتب التي تحلق بها المرأة، ولكن دفتره يقع على الأرض محدثا صوتا مكتوما كئيبا. تدرك المرأة أن "موريس" ببساطة يحتاج إلى قصة جيدة فترسل إليه بكتابها المفضل الذي يقف أمام "موريس" فاتحا ضفتيه لتظهر صورة بطله اللطيف "هامتي دامتي" الذي يحث "موريس" أن يتبعه. يقوده الكتاب إلى مبنى مهيب رائع ترفرف حوله الكثير من الكتب، يدلف "موريس" إلى الداخل ليجد آلاف الكتب التي دبت فيها الحياة تقف بانتظاره فاتحة صفحاتها مرحبة فيستعيد "موريس" ألوانه.


يعيش "موريس" وسط الكتب يقرأها ويعتني بها ويُعيرها إلى الناس الذين توافدوا إلي مبنى المكتبة لنجدهم وكأنهم يستردون ألوانهم المفقودة، فكلما لمس أحدهم كتابا تآلف معه وانسابت الألوان إلى جسده الذي كان من قبل مُكتسيا باللونين الأبيض والأسود. ويبدأ "موريس" في كتابة قصته مرة أخرى بأفراحها وأتراحها وتدوين أفكاره وهواجسه ومشاعره في دفتره. وتتعاقب الفصول وتمر السنوات و"موريس ليسمور" يعيش محبا مخلصا للكتب وعوالمها حتى يحين موعد رحيله عن الدنيا الذي يحمل للقاريء مشاهد مؤثرة ونهاية ناعمة ومبهجة

النسخة المطبوعة من القصة جميلة، ولكن ينبغي  الاعتراف بمتعة قراءة هذا الكتاب في نسخته الإلكترونية. فبنقرات أصابع بسيطة على شاشة الأيباد يمكن للقارئ أن يتفاعل مع أحداث القصة وتفاصيلها المختلفة، كأن يحرك الرياح ويغير الفصول ويستنطق الكتب ويعزف الموسيقى. نمضي دوما وقتا ممتعا أنا وابنتي مع "موريس ليسمور" وكتبه الطائرة حيث نعاود بين الحين والأخر قراءة الكتاب خاصة  في نسخته الإلكترونية لنستمتع بالموسيقى المصاحبة ونحرك أحداث القصة بنقرات أصابعنا.
"موريس ليسمور" وكتبه المذهلة هو تحية رقيقة وعميقة للكتب وتأثيرها في حياتنا، ولكني أراه أيضا يحمل حنينا مسبقا لزمن يغادرنا وينساب من بين أيدينا سريعا- على الأقل في هذا الجزء من العالم- وهو زمن الكتب الورقية.  كتبتُ منذ فترة تدوينة حملت عنوان رائحة الكتب عن رهبة تملكتني إزاء ما حدثتني به اخصائية إعلام ومكتبات مدرسية عن استشراف يرى أن المكتبات في شكلها التقليدي ستختفي من الولايات المتحدة تماما في غضون عشرين عاما لتحل محلها المكتبات الإفتراضية، وهو استشراف ربما تدعمه إحصائية تعود إلى عام 2012 عن مركز Pew  البحثي لشؤون الإنترنت تشير إلى أن أعداد قراء الكتب الإلكترونية في إزدياد. ففي السنة الماضية زاد عدد قراء الكتب الإلكترونية من 16% إلى 23% من الأمريكيين الذين تبلغ أعمارهم ستة عشر فما فوق، وفي الوقت ذاته انخفض عدد قراء الكتب المطبوعة من 72% إلى 67% من نفس الفئة العمرية. و فيما يتعلق بالمكتبات فقد تمت إعارة 70 مليون كتاب إلكتروني في عام 2012. وتشير إحصائية بمجلة التايمز الأمريكية إلى أن كتابا من بين كل أربعة كتب تباع بالولايات المتحدة يكون إلكترونيا.

وعودة أخيرة إلى "الكتب الطائرة المذهلة لموريس ليسمور" لنجد أن جمال رسوم القصة ينبع من جمال الكتب الورقية التي كان تكوينها طيعا في يد الرسام فجعلها ترفرف وترقص وتضحك وتبكي، لو كانت تلك الكتب نسخا افتراضية في جهاز قارئ إلكتروني لفقدت القصة حتما سحرها وجمالها ومعناها. 

ما وراء القصة
كتب وليام جويس القصة تحية "لبيل موريس" Bill Morris صديقه الذي كان يعمل في مجال النشر والمكتبات وكان عاشقا للكتب. كان "بيل" مريضا مرض الموت عندما زاره "وليام" وفكر في كتابة قصة  تقديرا لمسيرته مع الكتب. ثم اجتاح إعصار كاترينا ولاية لويزيانا الأمريكية موطن " وليام جويس" الذي لاحظ اثناء تجواله في الملاجيء التي اعدت لتوفير الحماية والطعام للمتضررين كيف استقبل الأطفال الكتب الممنوحة لهم ضمن المساعدات، كان الأطفال يبدون وكأن الحياة قد ردت إليهم في صحبة كتاب يمنحهم عالما خاصا ويحيطهم بسياج منيع يفصلهم عن ما يحدث حولهم. فاكتملت بذلك أركان القصة وبعث "موريس ليسمور" على الورق.
موقع الكاتب وليام جويس http://www.williamjoyce.com/
موقع الرسام جو بلوم http://joebluhm.blogspot.com/




Sunday, April 12, 2015

فضول الحدائق



هل انتبهت من قبل للحدائق الصغيرة المحبة للاستطلاع؟ أعني تلك الأعشاب الخضراء والزهور البرية ذات الفضول التي تشق طريقها وسط شقوق الأرض المرصوفة أو وسط شقوق الجُدران أو الأماكن المنسية. لقد جذبت تلك الحدائق الصغيرة انتباه " ليام" صبي المدينة الشغوف الذي يحب الاستكشاف والمشي تحت المطر.

يحكي لنا كاتب الأطفال والرسام بيتر براون Peter Brown ببراعة ورشاقة في كتابه المصور the Curious Garden  أو إن شئت " الحديقة المحبة للاستطلاع" قصة ذلك  الصبي "ليام" الذي يعيش في مدينة خالية من الحدائق والأشجار أو أية خضرة حتى أن سكان المدينة يقضون معظم أوقاتهم في الداخل فقد كانت المدينة كئيبة المنظر حقا. ولكن بالرغم من ذلك كان "ليام" يحب التجوال في شوارع المدينة، تستطيع أن تميزه بوضوح يمشي وحيدا بمظلته الحمراء وسط اللون البني الخالي من البهجة للمباني والمصانع التي تنفث مداخنها دخانا كثيفا أسود اللون. في صباح أحد الأيام اكتشف "ليام" أثناء تجوله ناحية السكة الحديد القديمة بيت درج يؤدي إلى الخطوط القديمة المعلقة التي توقفت عن العمل منذ سنوات طويلة. صعد "ليام" الدرج بسرعة وكان أول ما التفت إليه عندما وصل إلى خط السكة الحديد رقعة ملونة وحيدة من زهور برية ونباتات شقت طريقها وسط خط السكة الحديد. اقترب منها "ليام" ليتفحصها فاكتشف أنها على وشك أن تموت فأدرك أنها بحاجة إلى بستاني ليرعاها. لم يكن "ليام" بالطبع بستانيا ولم يرع نباتات من قبل ولكنه كان يعلم أن بإمكانه المساعدة. في اليوم التالي عاد إلى تلك الحديقة الصغيرة الوحيدة وشرع في العمل، صحيح أنه كاد أن يغرق النباتات وهو يسقيها كما ارتكب بعض الأخطاء في تشذيبها، لكن النباتات تحلت بالصبر ريثما يجد "ليام" أساليب أفضل للعناية بها.
وبمرور الأسابيع أصبح "ليام" أكثر احترافا في رعاية النباتات وشعر أنه أصبح بستانيا متمرسا وشعرت النباتات أنها حديقة حقيقية. لاحظ "ليام" أن حديقته ليست حديقة عادية لقد بدا له أن الحديقة قلقة تريد أن تستكشف الأماكن حولها. كانت الحشائش

والطحالب أول من بدأ في التحرك والظهور في أماكن أخرى على خط السكة الحديد، ثم تلتها النباتات الأكثر رقة كالزهور البرية. وبتعاقب الأشهر كان "ليام" وحديقته قد استطلعا كل ركن في خط السكة الحديد. ولأن "ليام" وحديقته لديهما فضول فقد امتد استطلاعهما إلى باقي أركان المدينة، تشق الحديقة طريقها وسط الأماكن المنسية وشقوق الأرض، ويضع "ليام" بعضها خلسة في أصص على أبواب البيوت أو يضعها على جوانب الطرق. ما حدث بعد ذلك كان مدهشا حقا فقد انتبه سكان المدينة إلى تلك الحدائق وبدأوا في الخروج من مساحاتهم المغلقة وشرعوا في العناية بها. وبمرور السنوات أينعت المدينة كلها بالأشجار والورود والحدائق، ولكن ظلت حديقة "ليام" الأولى على خط السكة الحديد القديم هي الأقرب إلى قلبه حيث بدأ كل شيء. 

أمضيت أنا وابنتي نور وقتا ممتعا ونحن نقرأ تلك الحدوتة الذكية الناعمة ونعاود قراءتها بين الحين والآخر لجمال وبساطة رسومها وإشراقة ألونها وسلاسة لغتها. منذ البداية تتفاعل مع الرسوم التي أضافت الكثير للقصة ورسالتها، منذ أن ظهر "ليام" كنقطة صغيرة ملونة بشعره الأحمر ومظلته الحمراء وسط مشهد عام للمدينة الموحشة التي يغلب عليها اللون البني ليشعر القاريء بأنه يحمل أملا وبهجة. كما أصبحت أنا ونور نبحث عن تلك الحدائق ذات الفضول أينما ذهبنا نتفحصها ونلتقط لها الصور. بالفعل بإمكان النباتات أن تشق لها طريقا للحياة في أكثر الأماكن غرابة. لقد استطاع "ليام" بشغفه وحلمه أن يغير وحديقته المحبة للاستطلاع والحياة العالمَ من حوله، فليس هناك مستحيل طالما وجِد الشغف والعمل وحب الحياة.

ما وراء القصة
استلهم بيتر براون قصته من تجواله في المدن والبلدان. فقد كان يبدو مستحيلا بالنسبة إليه أن تحيا الطبيعة وتزدهر في مدينة من الاسمنت والطوب والحديد المسلح إلا أنه كلما ارتحل أو تجول ودقق النظر وجد أن الطبيعة شغوفة وقوية لأقصى حد، تشق طريقها في أي مكان خاصة في الأماكن التي نهجرها. كما جاءت قصته بمثابة دعم لحديقة الخط المعلق أو الخط المرتفع the High Line في الجزء الغربي لمنهاتن أكثر أحياء مدينة نيويورك تكدسا بالسكان. وهو خط سكة حديد معلق ومهجور منذ عقود شقت الحشائش والزهور البرية والأشجار طريقها فيه وجعلته بيتها. أرادت البلدية أن تزيل خط السكة الحديد المعلق إلا أن أحد سكان المنطقة ويدعى "بيتر أوبلتز" تحدى خطة الإزالة في المحاكم ثم أنشئت جميعة أصدقاء الخط المعلق للحفاظ على الخط وحدائقه وجعله مساحة خضراء مفتوحة للعامة. واليوم بإمكان الزائر للحي الغربي لمنهاتن إذا ما نظر إلى الأعلى أن يرى حديقة وارفة ممتدة فوق الشوراع وبين البنايات. 

موقع الرسام وكاتب الأطفال بيتر براون
موقع أصدقاء الخط المرتفع